#
#
الرئيسية /إشكالات اجتماعية
إشكالات اجتماعية

فروة جدّي

01/01/2023

كانت فروة جدّي ثقيلة، ثقيلة جدًّا، سوداء من قماشٍ سميكٍ أسود، وبطانتها من جلود خراف بيضاء. كانت ثقيلة ولكنّها دافئة، شاركت جدّي فيها صغيرًا، أيّام الشتاء، جاذبته إيّاها، وأتحت لي مكانًا إلى يمينه أو يساره، يداعبني صوفّ خروفٍ مجعّد، لا أملّ من تحريك يدي من خلاله.

 

تتنوّع الفِراء في الجزيرة، من فروة الراعي إلى فروة الوجيه؛ فروة الراعي ذات الغطاء المشمّع لتفادي المطر، وفروة الجلد البيضاء من دون القبيّة (الغلاف)، وفروة جدّي ذات البطانة المعتبرة، والفروة الخفيفة من دون بطانة ولكنّها من قماشٍ ثقيل سميك من الجوخ الإنكليزي، وفروة الجوخ ذات البطانة البرتقالية.

 

في الشتاء يتجمّع الرجال في بيتٍ واحد، يقضون فيه سحابة اليوم، وقد يتغدّون في ذلك البيت يتحلّقون حول صحنٍ كبير من البرغل والمكبوس (مخلّل الباذنجان واالفليفلة)، ويشربون الشاي، ويكونون قد نثروا فراءهم وراءهم، بعدما استشعروا الدفء، حين تُبلي "الصوبة" بلاءً حسنًا، فيقول أحدهم "طفّم هالصوبة" أو "هدّي المازوط"، فتأخذ الفراء منظرًا جميلًا، وقد تركها الرجال خلفهم، كخرافٍ نائمة.

 

ليست الفروة مستجدّة في عالم الزيّ العربيّ، ولكنّي أزعم أنّ السنين الأخيرة -القرن قبل الماضي- قد شهدت إتقانًا أكثر، بعدما هاجرت قبائل عربيّة جديدة إلى الشمال، وربّما كان هذا في أخريات الحكم العثماني، فانتشر الفرّاؤون في الحواضر الكبرى كحلب، وحمص وحماة والرقّة. واشتغال عائلات في هذه الصنعة.

 

في النصف الأخير من القرن العشرين، انتشر في الأرياف "البردسون" معطف الفقراء، المصمّم من فروٍ صناعيّ، وبخاصّة البردسون ذو الخيوط السوداء والبيضاء، وأظّنه قد أضرّ بصناعة الفروة البدويّة، إذ انصرف إليه الموظّفون والفقراء والطلّاب، لرخص ثمنه ووفرة جيوبه. وبقيت الفروة لصيقة حياة الرعي التي تقلّصت.

 

حين يشتدّ البرد ويضطرّ أحدنا للخروج، تعطيه أمّي الفروة قائلةً: "هاك تگبّع بالفروة" أي اتّخذها قبّعة، ويكون مألوفًا أن تجد الشباب يرتدون الفراء واقفين لصق جدار، ويسترسلون في حديث، وكأنّ الوقت ليس شتاءً، وقد تتلطّخ الفروة بشيء من الوحل، فينتظرها صاحبها إلى أن ييبس الوحل، فيفركه، وكأنّ شيئًا لم يكن.

 

جاءت الفروة الصناعية أخريات القرن الماضي، وانتشرت في أوساط جديدة، غير الريفيّين، ولم ينقذ الفروة القديمة غير الطفرة الزراعية في التسعينيات، وقد عمّ الثراء في الأرياف، وبات ارتداء الفروة وسمًا اجتماعيًّا، وبات ارتداء فروة الجوخ الخفيفة ظاهرةً لازمت ظواهر أخرى من مثل شراء البيك آبات الحديثة.

.

مات جدّي، ولا أدري أين فروته الآن، وربّما هي على ظهر أحد أحفاده، أمّا الفروة الكبيرة فقد "تناتفها" الجميع، يطاردون البرغوث اللعين الذي ما زال يعبث فيها.

 

 

الكاتب : عيسى الشيخ جسن