#
#
الرئيسية /رأي
رأي

العلم كديانة.. و جدوى التبشير للعلم كأديولوجيا

03/10/2023


مقدمة:

أ-ينطلق هذا الطرح من مُسلَّمَتين

 

  1.    النفعية المادية وارتباط العلم بهذه النفعية، حيث تذهب أغلب المباحث الراغبة في التخلص من الأديان وتبِّني العلم دينا جديدا ؛ نحو أن العلم هو النفع وهو ما يحقق الراحة والرفاهية للإنسان، وأن الأديان والماورائيات تذهب بالإنسان نحو التضاد مع مصالحه ومنافعه وتطوره.
  2. التسليم بأن الأديان هي تراكم متضخم لانحياز مؤكد في الرصيد البشري، بعد تطور الإنسان عن كائن آخر، وحصوله على الوعي غير المسبوق لما سواه من الكائنات، وبحثه عن معنى الوجود.

  

ب-لا يهتم هذا الطرح في أن يقدم أحد الأديان على الآخر، ولا هدفه أن يبرر العنف المرتكب باسم بعض الأديان في التاريخ القريب أو المعاصر، وإنما يهدف لوضع العنف المرتكب في التاريخ البعيد ضمن سياقه ويبرر الحاجة السياسية النفعية لحصول ذلك العنف من منظور نفعي جماعي.

 

ت-هدف البحث المحوري والرئيس هو تبيان خطورة التبشير بالعلم كدين، وتخليص الناس من معتقداتها، على اعتبار التفسيرات الكونية وقراءة الواقع هو كل ما يحتاجه الإنسان من منظور مادي.

 

هذه المقدمة وما سيليها من أفكار ليست بالضرورة تعبِّر عن رأي كاتبها بالمُطلق، إنما هي مجموعة أفكار تتبادر لذهنه ويصارعها ويعرضها للنقد أمام الجميع، مع تأكيدي على وجود انحياز مؤكد ومعرفي رصيده آلاف السنين...

 

بداية لا بد لنا من قراءة في بعض المفاهيم المتفاوتة من مناظير مختلفة، فالدين من منظور الإنسان المادي الملحد تماما هو حركة سياسية قام بها أشخاص لقيادة مجتمعاتهم، وهذه نفسها قد يتفرع منها الرغبة الشخصية لتحسين السلطة والنفوذ، وقد يكون الهدف منها تحسين واقع الأمّة الخاصة وقد يكون منها حركة سياسية إنسانية تتبنى الإصلاح وتقدم مادة ترويج لنفسها هي الخلاص والعتق والحياة الخالدة ما بعد الموت لكل إنسان صالح ومتَّبع، مع التركيز أساسا كما ذكرت في المقدمة على نقطة البداية التي تقول : أن الإنسان اخترع الأديان كحل لبحثه عن معنى الوجود، بعد حالة الوعي والإدراك التي حصل عليها نتيجة دماغه المتطور ( ضمن المنظور المادي طبعا ) في حين يرى المثاليون أن هذا الكون لا بد له من خالق وضع معاييره وموازينه بدقة، وينظرون إلى الرسالات السماوية والنبوءات وغيرها من الأديان بعين نقدية تخضع لموازين العقل، فما اتفق ما العقل قبلوه وما تنافى معه رفضوه، المنظور الثالث وهو منظور متبعي الأديان البسطاء حول العالم وعبر الأزمان، فهؤلاء اتبعوا هذه الأديان طمعا في الخلاص ورغبة في تحسين الواقع، إذ يعتقدون أن رضى الخالق هو ما سيجعل الواقع أفضل.

 

تتصارع هذه الرؤى المختلفة وكلٌّ يحاول جذب الآخر نحوه ليقول : أنا من وصل الحق ومن سواي في ضلال مبين، الحق عندي صارخٌ والضلال عندك بائن، وكل مصائبنا بسبب من يخالفني في ذلك، فترى المادي ناقما على معتنقي الأديان إذ يكرّسون من وقتهم في قراءة وتبجيل تاريخهم ومورثهم أكثر مما يقرأون في المواد العلمية التي ستحسن الواقع المعاشي للجماعة والفرد والأمة بحسب انتمائها، ويصرفون من وقتهم وكلامهم وتحفظهم على العبادات أكثر من عنايتهم بجودة منتجهم العملي، ينتظرون المدد والسند والمعونة من الإله بدل العمل بالمعايير التي تنتج الجودة، يرتبطون بمرجعهم الديني ويقودهم دون أي قدرة نقدية أو مراجعة فكرية لما يقول، وينظرون للعالم والعلم على أنهما أعداء ويبحثون في خروم الإبر عن مداخل نقدية لانتقاد منتجات العلم، هكذا يرى المادي أتباع الديانات وربما أسوأ، في حين يرى المتدين الماديين والملحدين سببا في كل بلاء وعونا على كل غم، فهم الباحثون عن إطلاق الأطر والنظم الناظمة للفضيلة في المجتمع وتولية رغبة الأجساد عليها، متذرعين بالعلم، يلغون الحُب والروح، ويسمون المشاعر عناصر كيميائية، يجعلون الإنسان قردا متطورا ويحتقرون الفضيلة التي أتت بها الأديان، يعودون لها عندما يتبناها العلم، هكذا ينظر المتدينون للملحدين...

 

والسؤال هل من منفعة مادية من وجود الدين والإيمان؟

 

في قراءة بسيطة في السياق التاريخي نجد أن أكثر الأمم التي وصلت لنا آثارها وكانت ذات تقدم هي الأمم التي كانت لها معتقدات راسخة وكانت تعبد بشرا أو حجرا أو أيا كان ألهه متعددة أو الهاً غيبيا، أثبتت أن تلك الأديان كانت عاملا في انتاج قوة وتأسيس مجموعة قادرة على الإنتاج وصناعة حضارة إنسانية، وكان للمعتقد أن يؤسس للمعنى والوجود وكما سلمنا في المقدمة فإن هذه الديانات كانت حالة سياسية، ولكنها أسست لعدة مفاهيم منها الاجتماعي ومنها الاقتصادي ومنها السياسي، وعلى رأسها القدرة على الإنتاج الجماعي، حيث ما هو الرابط الجماعي دون وجود الأديان الذي سيؤدي إلى التعاون في الإنتاج، يستطيع قطيع ثيران التصدي لمجموعة أسود تريد التهام أحدها، وتستطيع الأسود الصيد بشكل جماعي ومنظم، وتستطيع القردة تنظيم الهجوم والدفاع والصيد، وكل ذلك في مجال أساسي وواحد وهو مجال غريزي، مجال البقاء على قيد الحياة... ولكنها لم تبنِ بيتا، ولم تصنع مصنعا، ولم ولن تُنقِّب عن النفط!

 

ماذا يعني هذا وما رابطه بالأديان؟ هذا يعني الإيمان بالعمل الجماعي طويل الأمد لدى الإنسان، ولكن هذا العمل الجماعي بحاجة إلى رابط، يمكنني أن أبني بيتا لي في سنتين، ويمكننا أن نبني قلعة لنا جميعا في سنتين، ولكن لماذا أختار أن أكون ضمن القلعة ولا أبني بيتي؟ ببساطة لأن الإله سيكون راضيا عن القلعة وسيكون غاضبا على بناء البيت، وبهذه البساطة تستطيع القيادات في السلطة تسخير المجتمع كاملا في الإنتاج الجماعي...

 

أليست بعض بل الكثير من هذه القلاع بنيت بواسطة العبيد أو العمل المأجور؟ نعم هذا أيضا ضمن سياق الرصيد الإنساني الديني، واختلاف القيم وفق الحاجات، حتى العبودية والتحرر كانت ضمن معايير تاريخية، وانتجت رصيدا ما، وهنا أنا لا أهدف إلى محاكمة التاريخ، فعدم قبولي بحصول العبودية لا يعني أن أقيم تاريخا ما وقعت فيه العبودية موقعا متقدما، إنما قراءتي للمسألة في الرصيد الذي وصلني من الإنتاج الجماعي في تلك الحقبة، وهنا أنظر لما نتج كمنتج إيجابي وأحيد الوسيلة عن قيمي الحالية فهي في سياقها ربما كانت حاجة أو ضرورة وهذا يؤكد النفعية الدينية مرة أخرى في نفس الموضوع والسياق.

 

حتى العنف الذي تبنته بعض المعتقدات في أزمنة متعددة، كان وسيلة للحصول على استقرار وانتاج من نوع ما، بل ربما لتكريس فضيلة ما، عبر العصور حتى في تاريخنا المعاصر هناك إيلاء للأكثرية بالنفع ولو كان على حساب الإضرار بأقلية ما ( مهما كان نوع هذا الضرر ) بما في ذلك الحدود العنيفة من رجم الزناة وقطع ايدي السارقين أو حتى قتل الأسرى وغير ذلك، هو في ظل الحركات السياسية لا يعدو كونه تحقيق المصلحة العامة وتغليبها على الخاصة، وكما قلت في المقدمة هذا لا يعدو كونه وضع الأمور في سياقها التاريخي، ولا يعني تبرير العنف باسم الأديان في الواقع المُعاصر.

 

من أين أتت الفضيلة ومن فكر فيها؟ لا بد أن هذه الحركات السياسية أو الدينية هي من اخترعت الفضيلة وأسست الأعراف المجتمعية، إذ أنها لم تكن إلا من نخب فكرية قدمت هذه الأطروحات السياسية أو الدينية، فلا يخلو دين من الأديان من الحثِّ على التسامح والإيثار والرحمة بالضعيف واحترام الكبير وغير ذلك، رغم أن كل ذلك قد يكون عائقا أمام الحاجة الفردية والرغبة والإنتاج الفردي، إلا أنه مهم جدا على الصعيد المجتمعي والتراص والإنتاج الجماعي، وهذه القيم التي يتم تبنيها في أعتى الحضارات المعاصرة ما هي إلّا تراكم لانحياز مؤكد كان يقول بوجود إله سيغفر لمن يعفو، وعبر هذا الزمن تم تكريس هذه القيم ضمن كيان الإنسان، فصرنا نقول كلمة الإنسانية في محاولة لربط كل فضيلة ورحمة بسلوك الإنسان الرحيم المُتحضر، والذي هو عبارة عن إنسان متطور عبر آلاف السنين من الإنسان المتبع للأديان.

 

ولا بد أن ألفت هنا في الدور الكبير للمعتقدات في جعل الفضيلة سمة عامة للبشر، إذ أن إيمان الناس بأن فعلها الجيد سيعود عليها بفعل جيد من الآخرين بإرادة الله، سينعكس في كل مجتمع إيجابا بشكل تراكمي، بل ربما يُنتج عالما أقرب إلى الفضيلة أكثر منه عالما موغلا في حبِّ الذات على مستوى أفراده.

 

ما الذي أريد قوله من هذه الفقرة؟ لنفرض أن الإنسان نزع في تاريخه الأول بعد حالة الوعي إلى تقديس ذاته، وتقديس قوته، ورفض الأفكار الماورائية، ألن يكون الإنسان اليوم كائنا كدراكولا؟ لم يضع منظومة أخلاقية تحكمه ولم يسعى للعمل الجماعي، إنما مولع بالدم الطازج من الكائنات الغضة حتى لو كانوا أبناءه؟ قد يكون في هذا مغالطة الاحتكام إلى الجهل ولكني هنا لا أجيب بل أسأل وأُقدِّمُ أحدَ الإجابات التي تخطر لي..

 

من أين وصلنا إلى التفكير في طرائق الحكم المختلفة لولا هذا التصارع التاريخي، إذ لولا وجود هذه الأديان كحركات سياسية لإنتاج مجتمع متقدم ما هي الحلول البديلة، وأنا أعلم أن الماديين أيضا لا يرغبون في محاكمة التاريخ، ولكن أركّز هنا على أننا حصيلة انحياز مؤكد تاريخي نقطف ثمرته أينما ضربت أفكارنا وغرفت، وتكافئ فيه الأديان من قبل المادية بجحود، فكل هذا الرصيد والإرث والوصول يقابل بعداء وكراهية...

 

يذخر التاريخ الإنساني بكم هائل من الأديان منها ما انتهى واندثر ومنها ما يظهر حديثا حتى وما هو مستمر أساسا من الماضي، وهنا نلاحظ إصرار الكم الأكبر من البشرية على فكرة الحياة ما بعد الموت، يرغب الماديون في التبشير بالعدمية، غير مكترثين بأي نتيجة ممكنة، منطلقين من أن العدم هو البداية والعدم هو النهاية وفق تفسير العلم، وهذه النهاية المخيفة في حياة يسودها اللاعدل هي أمر غير مرغوب فيه البتة، وعليه لِمَ نرغبُ في العيش ونحن ذرات ستنتهي إلى الناشئ في كوكب عمره النهائي صار محددا بواسطة العلم، لم هذا الموت المؤجل والعيش الكئيب؟ 

 

ما هي شريعة هذه العبثية، ولماذا نحن نفكر بالعدل طوال الوقت، والحقيقة بكل معطياتها العلمية تقول بأن البقاء للأقوى، القوة التي لا يهمها الوسيلة بل يهمها النتيجة، حتى تحصل على متعة الحياة يجب أن تكون قويا وإن كنت غير ذلك فأنت مطية يستخدمها الأقوى لمتعته ليس إلا... هذا ما يبشر به العلم، في حين تلك الأديان تبشر بالجنة وبالعيش الرغيد، وتطالب الناس بالرحمة والمساواة...

ماذا سيقدم لي العلم عندما أؤمن به؟ عدد خلاياي؟ حجمي مقارنة بالكون؟ تحليل مرضي ودواء للعلاج، ماذا سيعني كل ذلك؟ هل أنا الموجود حاليا والذي يعاني من آلام الحياة والوجود وعذابات اللاعدل سآخذ دواء يجعل الكون عادلا بالنسبة لي؟ لا... إنما سآخذ الدواء ليزيد عمري في حياة اللاعدل مع بقاء الأعراض والتعرض للشيخوخة، وبعدها سيعتبر الماديون هذا إنجازا في رصيد العلم!

في ظل هذا كيف يمكن أن أرتمي في حضن العلم؟ وما الفائدة من الفضيلة؟ كما أسلفت الفضيلة نتيجة تراكمات من المفاهيم، اليوم يود دعاة العلم وضع الفضيلة تحت المجهر الاجتماعي ورقابة الدولة، من تهرب من الضرائب؟ ومن خالف إشارة المرور؟ ومن عنّفَ زوجته؟؛ بطريقة مُكلفة حدَّ الهدر، ضع كاميرا في كل مكان وسمِّ وظائف رقابية جديدة، ضع اجهزة متقدمة لمراقبة الانتاج، أو لاحق فلانا في الصحافة لأنه لم يدفع الضرائب... الخ، في حين تستطيع تخفيض كل هذه التكاليف ببناء مجتمع يرتبط فيما وراء الطبيعة وينتظر جنة الخلد عبر التزامه في دوامه في العمل واتقانه عمله ورحمته مع الآخرين...

 

ما المنفعة المادية والعلمية البائنة التي ستحصل عليها البشرية في التخلي عن الأديان؟! وما هو هذا الدين العلمي الذي يبشرون به؟

 

يوغل بعض الماديين في التطرف عندما يحاولون تخليص الناس من معتقداتهم، أولئك الكثيرون الذين يعيشون على هامش الحياة، الذين لا يعنيهم ثقب الأوزون ولم يسمعوا مرة بالفرق بين الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، أولئك الذين يذهبون كل يوم إلى المعمل للحصول على أجر يكملون به حياتهم، ويطعمون به أطفالهم، وأولئك الذين يزرعون في أقسى وأعتى المناخات، طمعا في القدرة على الزواج أو حتى البقاء على قيد الحياة، أولئك الذين ليس لهم إلا التوسل إلى الإله ليجعل حالهم أفضل ضمن معطيات محيطة تجعل كُلَّ واحد منهم عاجزا تماما عن إنتاج أي حل أو أي طريقة ليصبح حاله أفضل، وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه التوسلات، ولكن لا أظن أننا سنختلف أن هذه التوسلات والرجاءات تجعل باعثيها في راحة وطمأنينة قد تغلب بعض الأحيان راحة وطمأنينة أثرياء العالم، وبعد هذا ماذا يمكن أن نقدم لهؤلاء الراجين من الله بديلا علميا؟ 

 

وهنا لي مداخلة شخصية جدا، نلحظ دائما فكرة الجاذبية جذب الكبير للأصغر، ويمكن القول بشكل أوضح انجذاب الأصغر للأكبر، الطفل بحاجة أمه، فهو دائما ينجذب إليها، القطة تنجذب للإنسان، الأنثى تنجذب إلى الذكر، الإنسان الأضعف ينجذب للإنسان الأقوى، وهكذا، هذه الحالة من الشعور بالأمان عندما يرتمي الأصغر في حضن الأكبر، ربما تكون هي محور بحث الإنسان عن قوة أكبر منه ومن الكون ليشعر من خلالها بالأمان، الأمان الذي لا يستطيع العلم تقديمه لأحد لأن العلم كلما تقدم جعل العالم مخيفا أكثر...

 

الأديان مادة عفى عليها الزمن وما عادت تلائم العصر، هكذا يقول بعض الماديين، قد نتفق أن هناك بعض التشريعات في بعض الأديان ما عادت تلائم القيم المعاصرة، وهذا بحاجة إلى إعادة قراءة وإنتاج من الأديان نفسها ومفكريها، ولكن نختلف تماما مع فكرة نسف الدين لأجل وجود بعض التشريعات غير المتناسبة مع العصر، فالدين ليس هذه التشريعات وحدها، إنما منظومة متكاملة من الإيمان والتسليم والراحة التي يتمتع بها المؤمن بدينه، وتخليصه منها يشبه سلخ جلده وهو حي، وردة فعله على ذلك لن تكون إلا بأعنف الأشكال والصور، فمن أسوأ ما يمكن أن يتخيله المؤمن تخليصه من الشعور بالراحة والأمان الذي يتمتع

الكاتب : عامر قنواتي