#
#
الرئيسية / البحث عن طريق اسم الكاتب
إسماعيل كردية
Responsive image

2023-01-25

حوار مع المعتقل السوري السابق الكاتب والباحث نبيل ملحم

قبل التعرف على الكاتب والباحث نبيل ملحم من المهم التعرف على عائلته، فهو أخ لثمان إخوة شباب وأختين بنات، أربعة من إخوته الشباب كانوا معه في السجن قبل الثورة، إضافة الى زوجة اخيه التي امضت اربعة سنوات في سجن النساء في عدرا، ومع انطلاق ثورة السوريين أعيد اعتقال ثلاث من اخوته لفترات مختلفة، كما تم اعتقال اثنان من أبناء إخوته، وصبية من بنات أحد إخوته، وقد بلغ مجموع السنوات التي قضاها أفراد العائلة في سجون النظام  قبل وبعد الثورة ما يقارب الستين ( 60 ) سنة. ومن الجدير بالذكر هنا، أنه عندما داهمت إحدى دوريات الأمن العسكري منزل والده خضر الملحم في أوائل التسعينيات من القرن الماضي بعد أن وصل عدد المعتقلين من أولاده إلى الخمسة، وكانت الدورية تبحث عن ولد سادس من أولاده الباقين خارج السجن، وعندما لم يجدوه فإن خضر الملحم رمى لهم عكازته التي كان يتكئ عليها في آخر العمر قائلا لهم خذوها وضعوها في السجن إذا كان ذلك يشفي غليلكم. يعرف نبيل ملحم عن نفسه فيقول: أنا نبيل خضر ملحم، مواليد 25 / 12 / 1962 من الريف الشرقي لمدينة حمص، من قرية أبو حكفا الشمالي، النقية كبياض زهر اللوز، والحلوة الشهية كحبة عنب في لعاب صبية على حد تعبيره ، في الحياة العملية انا مهندس إنشائي بمرتبة مستشار._  وعند السؤال عن الاعتقال وكيف كانت ملابساته ؟؟اعتقلت بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي في سوريا في خريف 1987، وأطلق سراحي ربيع 1996، قام باعتقالي فرع سعسع للأمن العسكري من كتيبة الهندسة التابعة لقيادة الفرقة السابعة في منطقة زاكية، كوني كنت في الخدمة العسكرية الإلزامية، وكون أحد رفاقنا كان يخدم في قطعة عسكرية مجاورة، وكان قد نجح في الهروب من القوى الامنية في دمشق أثناء تفريغ أحد البيوت الحزبية التي داهمها الأمن، وكان يبحث عنه فرع سعسع، لهذا فقد اعتبر رئيس فرع سعسع للأمن العسكري اعتقالي وكأنه انجاز له ومناسبة لانتقام استعد له مسبقا، تم اعتقالي من كتيبة الهندسة من دون ضجة، من خلال خطة أعدها رئيس فرع سعسع للأمن العسكري، فقد جاء الى الكتيبة مع دورية  بهيئة ضباط  من اللواء 90، قالوا لقائد الكتيبة بأنهم يريدون مهندسا من أجل بناء تحصينات بيتونية في تل الشحم على الجبهة، فأعلمني قائد الكتيبة بذلك وأمرني أن أذهب معهم في السيارة إلى الموقع المحدد، ركبت معهم في السيارة التي انطلقت ولم تتوقف إلا بعد وصولها إلى مبنى، هناك علمت أنه مبنى فرع الامن العسكري في سعسع، بعد تجريدي من رتبتي العسكرية – ملازم مجند - ووضع الكلبشات في يدي، وطرميشة على عيوني، وسماع سيل من الشتائم من رئيس الفرع، بعدها مباشرة تم نقلي من هناك الى فرع شؤون الضباط في الأركان، وقد أجرى معي تحقيق سريع ضابط المخابرات المعروف علي يونس الذي كان قد استدعاني إلى الفرع للتحقيق في صيف 1987 حوالي الثلاث مرات، وقد قام علي يونس بالتحقيق معي لمدة ساعة فقط للتعبير عن شماتته لوقوعي بين مخالب القوى الأمنية من جهة، ومناسبة ليسكب ما بداخله من شتائم وسباب قذر على عائلتي من جهة ثانية، بعدها تم نقلي الى فرع فلسطين، حيث تم التحقيق الحقيقي معي هناك، وكون رئيس الفرع والضابط المسؤول عن التحقيق في الفرع  المدعو عبد المحسن هلال لم يقتنع بروايتي في التحقيق نتيجة لبعض الأوهام والتقديرات الأمنية حولي، فقد قضيت الشهور الستة الأولى من اعتقالي في الزنزانة الانفرادية، قبل أن يتم نقلي إلى سجن صيدنايا العسكري، حيث أمضيت هناك حوالي الثماني سنوات. وبالرغم من كوني لم أنتم بالمعنى التنظيمي لحزب العمل الشيوعي، فقد تم اعتقالي مثل المئات من السوريين والسوريات في حملة عام 1987، وهي الحملة الشهيرة التي قام بها النظام ضد حزب العمل الشيوعي بتوجيه مباشر من رأس النظام حافظ الاسد حين أوعز لمخابراته العسكرية ولمكتب الأمن القومي وكل فروع الأمن في سوريا قائلا في برقيته الشهيرة التي تم تسريبها وتداولها حينها " لا اريد أن أسمع بعد اليوم بشيء اسمه حزب العمل الشيوعي في سوريا " وهو الأمر الذي قاد الى اعتقال كل ما طالته يد الأجهزة الأمنية ولا سيما فرع فلسطين، لا من أفراد وأعضاء حزب العمل الشيوعي المنظمين فحسب بل طال الاعتقال حتى أصدقاء الحزب وكل من ثبت أن له علاقة من قريب أو بعيد مع الحزب.-حدثنا عن فترة السجن وتفاصيل يومك في المعتقل ؟ وعن حضور المرأة في خيال وعالم المعتقل؟ أقول بأن السجن هو حالة إخراج قسري للإنسان من مجرى الحياة المتدفق، ورميه في عالم يشبه عالم العدم، وهي حالة تشبه الموت أو لنقل حالة خاصة من الموت، الحالة التي يشعر بها الإنسان بموته، الحالة التي يرمى بها بالإنسان وهو بكامل وعيه وأحاسيسه إلى قاع عميق من الزمن والحرمان. إنها حالة خاصة عيانية من جدلية الحياة والموت، ففي كل لحظة هناك حياة وموت لا بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحسي الملموس، في كل لحظة تولد الحياة من رحم الموت كما يأتي الموت من رحم الحياة. وهنا اقول ان افضل طريقة لمواجهة هذه الحالة من الموت أو لنقل أفضل حالة لتقليل الإحساس ببشاعة هذا الموت، هو، اولاً: من خلال إدارة الظهر لمجرى الحياة المتدفق في الخارج، وهي العملية التي سماها المناضل الشهير نيلسون مانديلا  بالاستحباس داخل السجن، وهي عملية تستغرق من الزمن ما لا يقل عن ثلاث سنوات كي يستطيع السجين إنجازها بنجاح. وهي عملية قدرة السجين على اعتبار السجن هو العالم الأول والأخير في حياة السجين، مع ما يستدعي ويتطلب ذلك القدرة على إدارة الظهر للعالم الخارجي، فإن دخلت السجن فعليك ألا تلتفت إلى الخارج حتى تنهي فترة السجن، فحتى إن توفرت لك نافذة " شباكا يطل إلى خارج السجن " تستطيع من خلالها النظر للخارج فعليك قدر الإمكان التقليل من ارتشاف هذه النظرات. فأن تعيش حالة الإحساس المتواصل بالحرمان من خلال النظر إلى الخارج بشكل دائم قد توصلك إلى الجنون أو الانفصام أو الانهيار، فالجهد النفسي والمعنوي والحسي إذا ما زاد عن حده يمكن أن يقود إلى انهيار الجملة الحاملة تحت وطأة وثقل الحرمان والانقطاع عن الرغبات.ثانيا: من المهم تقطيع الفائض الأسطوري من الزمن الراكد في السجن، فالزمن الراكد إما أن تقطعه بسيف الحيلة والمقاومة أو أن يقطعك بسيف الروتين والتكرار والتعفن، ولا يمكن أن يتم تقطيع وقطع الزمن من وجهة نظري إلا من خلال إعطائه وملئه بمحتوى متغير بشكل دائم . لهذا فقد كنت أمضي نهاري وبشكل يومي بين الرياضة والقراءة والكتابة والتسلية مع الرفاق. إنه الزمن الأسطوري، تصور مثلا أنك تستطيع أن تقرأ بزمن قياسي كل الأعمال الفلسفية "لهيغل"، المكتبة الهيغلية بكاملها أو فلسفة "نيتشه" أو كل فكر "كارل ماركس" وفلسفته أو فكر "عصر الأنوار" أو كل ما كتب في علم النفس أو الأدب في أمريكا اللاتينية أو الأدب الروسي بما في ذلك رواية "الحرب والسلام" للروائي الروسي "ليو تولستوي". فهناك دائما متسع من الزمن الفائض إلى حد يستطيع فيه السجين إن أراد أن يقرأ مجلدات قصة الحضارة كلها للفيلسوف الأمريكي "ويل ديورانت"، ومعها مجلدات الأغاني "لأبي فرج الاصفهاني" فإن ذلك لا يستغرق سوى نقطة من زمن السجن.لقد قرأت القرآن والإنجيل والتوراة، كما قرأت كتاب تفسير القرآن" لابن كثير" مع نقاش هذا التفسير مع أحد السجناء المحسوبين على التيار الإسلامي وآخر محسوب على التيار القومي. والأهم أني شغلت نفسي طيلة سنوات سجني أبحث في موضوع الدولة والسلطة والسياسة حيث ملأت أغلب وقتي في الكتابة حول هذا الموضوع وفي القراءة من أجل خدمته، إلى الحد الذي يمكنني من القول أني أنجزت مساهمة متواضعة في علم الاجتماع حول موضوع الدولة، كما أنجزت عملاً أدبياً متواضعاً بعنوان - "حكاية زهرة الليمون " .يرصد قيمة ومكانة ودور المرأة في عالم السجين وذلك من خلال محاكاة الواقع الذي أعيشه ويعيشه مئات غيري من البشر في عالم السجن.وهنا سأنقل لك مقطعاً من هذا العمل الأدبي المتواضع. كتبت فيه " حكت لي السنونو أنها رأتك يوماً تغازلين الشمس، فقلت لها: إنها غجرية عاشقة، تنتظر حبيباً يوزعها ورداً في مشاتل قلبه، حكت لي إن الشجر حزين وأن البحر يخبئ كل الصدف المرجاني ليوم عيد، وأن القمر ما عاد يرسم درباً للعشاق، وأن السنديان اعتذر وبكى حزيناً، وعشتاروت اعتكفت في معبدها تصلي وتوقف طقوس الحب معلنة أن الحب مع الجرذان حرام، وأن رمال الصحراء العربية ما عادت تخبئ حر الصيف، وأن أبواب السماء انفتحت تعلن أن زهرة الليمون إلهة جديدة، وأن مياه النهر المتدفق فرت هاربة من دون طريق، حتى عروق الأرض المتعطشة دوماً للأمطار جفت معلنة أن الوقت ليس ربيعاً ... الآن في هذا العالم الغريب تندفع الذكريات كشريط سينمائي ...حلقات ...حلقات ... إنها الروح تفتش عن مادة للحياة ... عن امتدادها وشطآنها الدافئة حيث كانت تعيش...روحي التي ترفض التخثر والموت فتنشد نشيد البقاء وترانيم العشق الأبدي...تبحث في سجنها عن أجمل ما تمتد عليه وتقتات منه نسغ الحياة، إلى حيث يمكن ان تعيش فصولها، إلى ما يحتضنها ويدفئها ويغرس فيها رعشة الحياة ودفقها الدافئ، تفتش عن أجمل ما في الحياة من أجل الاستمرار ...الآن على ضفة عالم الغربة أرحل إلى تلك اللحظات المخبأة في أعماق الزمن كي أفلت من اللحظة التي أعيشها الآن...أرحل إلى تلك الفتاة التي عشقتها يوماً... فلا داعي لروحي إذاً أن تخلق طيف امرأة ما أو مغامرة عاطفية من الخيال...إن روحي ترحل من هذا المكان، من بين تلك الجدران الباهتة والقضبان الباردة، من مكان لا أمان فيه ولا فضاءات، لا امتداد ولا تدفق، إنه عالم شحيح يعج بالرتابة والروتين والتكرار المقيت، عالم يفتقر إلى أي اخضرار يذكر بالحياة، عالم تلفه الألوان الرمادية وكأنه العدم، إنه عالم الكلمات المحدودة والقواميس البسيطة لكن المعقدة العصية على الفهم، عالم لا يوجد فيه ثرثرة عذبة لحذاء امرأة على بلاط غرفتي، ولا ظل لأنوثة على مائدتي، يجعلني أغمسها في كل لقمة آكلها، هنا وقع أحذية ثقيلة يضج بها المكان دائماً ليل نهار، فيه قرقعة مفاتيح كبيرة تذكر الإنسان بزرائب الحيوانات في القرى النائية والبعيدة عن المدن...إن السجن يشكل قوة تدمير هائلة تسعى إلى سحق الإنسان سحقاً لا رحمة فيه للبنية الروحية والنفسية والعقلية للإنسان، وقد يشكل وقوف حبيبة أو أي امرأة إلى جانب السجين طيلة فترة السجن أكبر قوة حامية من التدمير النفسي والعقلي، فهي لا تحمي الروح من الانحطاط والتصحر الوجداني فحسب بل هي من تجعل العالم الروحي للسجين أكثر غنىً وتنوعاً وأشد خصباً وتفجراً وارتقاءً، حتى التماسك العقلي وصفاء التركيز الذهني لا يمكن له أن يوجد من دون التماسك الوجداني الذي يكون من خلال التواصل مع حبيبة أو أي امرأة... ". وختم الكلام حول هذا الموضوع بالقول: بأن مكانة المرأة في عالم السجين وصلت حداً كان يجعل خبراً بسيطاً يأتي من الحبيبة من خارج السجن يقود في كثير من الحالات إلى الانهيار النفسي والروحي للسجين إذا كان خبراً سلبياً أو قد يدفعه إذا كان خبراً إيجابياً إلى مزيد من التماسك الروحي والنفسي والعقلي وحتى السياسي، وقد كنت محظوظاً أن المرأة التي كانت تنتظرني وهي زوجتي حالياً كانت في منتهى الروعة والإيجابية، وكان لها الفضل الأول في تخفيف آثار عالم السجن والقدرة على مقاومتها وتجاوزها أثناء الإعتقال وبعده.                  تجربة حزب العمل الشيوعي من عام 1976 الى عام 1992 والذي شكل خلال عقد من الزمن الشاغل الوحيد لأفرع الأمن السوري. الآن وبعد عقدين من الزمن كيف  تقيم هذه التجربة الثورية؟؟؟._لن أتناول تجربة حزب العمل الشيوعي من الداخل، فهذا شأن الرفاق الذين عايشوا هذه التجربة من داخلها بالمعنى التنظيمي وعبر كل مراحلها المختلفة. لكن أسمح لنفسي كأي سوري مهتم بالشأن السياسي العام إعطاء تقييم سياسي لتجربة حزب العمل الشيوعي وأي تجربة حزبية عرفتها الساحة السورية، وهنا سأتناول جانبا واحدا من التجربة السياسية لحزب العمل، وحيث التقييم الشامل يحتاج الى مساحة لا يوفرها هذا اللقاء، وهنا أقول بتكثيف شديد بأنه بدءاً من أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ومع بدء طغيان المد الديني في سوريا كما كل ساحات المنطقة ومع ارتفاع وتيرة وشدة قمع النظام السوري للقوى المعارضة فإن توسع وانتشار قوى اليسار التحرري المناهض للاستبداد الاسدي كحزب العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي ، المكتب السياسي، وحزب البعث الديمقراطي، توقف تقريباً في كل الأوساط وخصوصاً في أوساط الأغلبية السنية، وحيث يمكن القول أن أول آثار المد الديني في سوريا انعكس على حالة انتشار هذه القوى وسط الغالبية السنية، إلى الحد الذي يمكنني من القول أن بعض الاحزاب أصبحت تعتاش تنظيمياً وسياسياً فقط على استقطاباتها القديمة التي عرفتها في عقد السبعينيات وما قبله من القرن الماضي. وقد تميز حزب العمل الشيوعي عن غيره من قوى اليسار التحرري المناهض للاستبداد الأسدي في قدرته على الاستمرار على التوسع والانتشار في أوساط الأجيال الشابة الجديدة بشكل عام، وفي أوساط الاقليات الدينية والقومية بشكل خاص، إن كان بسبب قياداته الشابة الأكثر قرباً من الأجيال الشابة أو بسبب طروحاته اليسارية الجديدة التي كانت من خارج الأطر الفكرية والثقافية للمدرسة الشيوعية الكلاسيكية أو بسبب خوضه طرقاً جديدةً للنضال السري كانت أكثر قرباً للمخيلة السياسية للأجيال الشابة وأكثر دغدغة لأحلامها الرومنسية وانفعالاتها النضالية المقدامة، وحيث ان الخرق الذي أحدثه حزب العمل الشيوعي في أوساط الشباب شمل الشباب والشابات على قدم المساواة إلى الحد الذي يمكنني من القول بأنه كان يوجد مقابل كل شاب انخرط في الحزب كانت هناك شابة تقابله كتفاً بكتفٍ في العمل الحزبي بكل مستوياته وميادينه العملية القاعدية. وقد جن جنون النظام من قدرة انتشار حزب العمل الشيوعي في أوساط الأقليات الطائفية ولا سيما الطائفة العلوية، فهذا الانتشار جعل حزب العمل الشيوعي يشكل ثاني خطر واجهه النظام بعد خطر الاخوان المسلمين، والخطر الذي استشعره النظام من حزب العمل الشيوعي لا يعود للروح القتالية والنضالية العالية التي ميزت شبابه، كما ميز الشباب الذين انخرطوا مع الإخوان المسلمين، بل كان الخطر متأت من شيء آخر، حيث يمكن القول هنا أن أخطر قوتين سياسيتين واجههما النظام السوري خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات هما قوة الإخوان المسلمين من جهة وقوة حزب العمل الشيوعي من جهة أخرى،واذا كان خطر الإخوان المسلمين تأتى من كونهم حاولوا تشكيل عصبية طائفية سنية في مواجهة العصبية الطائفية العلوية التي بدأ النظام بإنشائها فور وصوله إلى السلطة عام 1970 وإذا كان صحيحاً أن النظام استفاد من محاولة الإخوان هذه في عملية تسريع وتحفيز الطائفة العلوية للانخراط في العصبية المزمع إنشائها إلا أن الخطر الذي شكله الإخوان حين بدأت المواجهة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تأتى من خوف النظام من أن يستطيع الإخوان المسلمين جر الشارع السني كله ضده في لحظة لم يكن النظام قد استكمل عملية بناء العصبية العلوية التي يريد استخدامها كركيزة إضافية لركيزته السياسية الطبقية. أما الخطر الذي شكله حزب العمل الشيوعي منذ أن كان في مرحلة الرابطة فقد تأتى من كون وسط انتشاره التنظيمي والسياسي الأساسي بدأ يتجه شيئاً فشئياً موضوعياً باتجاه التركز في أوساط الأقليات ولا سيما الاقلية العلوية، وهو الأمر الذي كان يشكل موضوعياً حالة من تهديم وتخريب وتفتيت كل ما كان يعمل النظام من أجله داخل الطائفة العلوية بهدف بناء عصبية طائفية علوية. وهنا أقول أن النظام الأسدي سعى منذ اليوم الأول لوصوله الى السلطة 1970 إلى ضرب أي قوة سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية قد تولد أو توجد بشكل مستقل عنه داخل المجتمع السوري بشكل عام وداخل الطائفة العلوية بشكل خاص، فعملية بناء العصبية العلوية التي كان النظام الأسدي يعمل على بنائها ليل نهار كانت تتطلب أول ما تتطلب الانفراد والاستفراد في تمثيل الطائفة العلوية، لهذا شكل حزب العمل الشيوعي منذ أن كان في مرحلة الرابطة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي أكبر قوة دخلت موضوعياً على أوساط الطائفة العلوية بهدف إدراج عمل أبناء هذه الطائفة كما كل أبناء فئات المجتمع السوري ضمن مشروع تحرير المجتمع كل المجتمع من الاستبداد السياسي الأسدي. لقد حصد النظام في زمن الثورة نتيجة ما قام به في مرحلة ما قبل الثورة مرتين أو لنقل بشكل مضاعف. فنجد أن القمع الذي مارسه النظام ضد الحزب وضد بقية القوى السياسية المعارضة طيلة عقد السبعينيات والثمانينيات حتى بداية التسعينيات  كانت نتيجته تصفية هذه الأحزاب ومنها حزب العمل الشيوعي، حيث أصبحت الساحة السورية تعيش حالة من الفراغ السياسي، استطاع النظام أن يملأه بطريقته في كل الأوساط الاجتماعية السورية، وقد كانت أنسب طريقة للنظام لملء الفراغ داخل الطائفة العلوية هي مشروعه المعد دائماً لتكوين عصبية طائفية علوية يرتكز عليها، ولهذا عندما جاء زمن الثورة، فإننا نجدأولاً: إن النظام كان قد استكمل وانتهى من عملية بناء عصبية طائفية علوية تتمحور حوله.ثانياً: إن الطائفة العلوية التي تحولت إلى طائفة سياسية، استطاعت موضوعياً أن تشد إليها سياسيا" موقفها من الثورة" نخبها السياسية بما في ذلك النخب التي طالما وقفت في وجه النظام، وأمضت زهرة شبابها في معارضته وسجونه، ولاسيما شباب حزب العمل الشيوعي، فقد وقع الكثير منهم تحت تأثير ما يمكن أن نسميه بقوة الجذب المغناطيسي للبيئة الاجتماعية التي قد تكون طائفية عندما يتنحى الانقسام الأفقي داخل المجتمع لصالح الانقسامات العمودية الطائفية، وقد تكون هذه البيئة، بيئة طبقية عندما يكون هناك سيادة للانقسام الأفقي وتنحي الانقسامات العمودية داخل المجتمع، وقد تكون البيئة قبلية أو قومية ...الخ من أشكال البيئات الاجتماعية ، ففي البيئة الطائفية يزداد تأثير وفعل قوة الجذب المغناطيسي الطائفي في العادة في المراحل التي يشتد بها الشحن الطائفي داخل المجتمع، وحيث أن النظام قام بهذا الشحن داخل الطائفة العلوية من اليوم الأول للثورة. ففي أوساط الطائفة العلوية كان حمل سيف التمرد ضد النظام، ومناصرة الثورة يلقى مواجهة وقمعا، لا من أجهزة النظام المختلفة فحسب، بل كان هناك قمع من المحيط الاجتماعي القريب والبعيد، من الأقارب أو الجيران أو سكان الحي أو القرية أو من الأهل مباشرة، من الأخ أو الأخت أو ابن الأخ أو ابن العم أو ابن الخال، ومن كل من ينتمي إلى النظام من الأهل من هذا الباب أو هذا الشباك، وقد كانت أدوات القمع تمتد من سيف التبرؤ العائلي وغيره من صنوف الضغط المعنوي، وصولاً إلى ممارسة العنف المادي بكل أنواعه. وحيث أن القليلين هم من استطاعوا مقاومة كل هذه الضغوط أو كانوا بمنأى عنها. من جهة ثانية نجد أن بعض النخب السياسية الحزبية أو غير الحزبية التي لم تقم بأي دور نضالي في مواجهة النظام على مدار خمسة عقود من الزمن، وحيث كانت معارضتها له في الظل وبصوت خجول وجبان، وبعضهم كان جزءا من مكنة النظام. أقول بأن هذه النخب في زمن الثورة ولأنها كانت تنتمي إلى أوساط اجتماعية ثارت بعنفوان واندفاع ضد النظام من اليوم الأول للثورة، ولا سيما في أوساط الغالبية السنية، وكذلك في أوساط الطائفة الإسماعيلية، وطائفة الموحدين الدروز، وأوساط الأقلية القومية الكردية، فإن فعل وإقدام هذه النخب كان يفوق مئات المرات من كانوا تاريخياً في المقدمة في التضحية والإقدام، ولكنهم ينتمون إلى أوساط اجتماعية لم تدخل إلى ساحة المعركة في لحظة الثورة أو ترددت في الدخول إلى ساحة الثورة أو خانت الثورة جملة وتفصيلاً.فإقدام وأثر النخب السياسية في النهاية يأتي من إقدام وأثر أوساطها الاجتماعية الطائفية أو الطبقية. فقوة الجذب الطائفي تشبه قوة الجذب الطبقي في لحظات احتدام الصراع الطبقي، فتجارب التاريخ تقول بأن قوة وشجاعة وإقدام النخب السياسية والثقافية في أي مجتمع تتأتى من إقدام وأفعال وشجاعة الطبقة الناطقين باسمها.وهنا من المهم الإشارة إلى أن الكثير من النخب العلوية المعارضة تاريخياً للنظام إن كان من حزب العمل الشيوعي أو غيره من قوى اليسار التحرري شاركت في الحراك الثوري في الأسابيع والأشهر الأولى للثورة السورية، أو أيدت هذا الحراك كأضعف الإيمان، ولكنها عندما التفتت خلفها ووجدت بأنه لا يوجد لها سند في أوساطها الاجتماعية الشعبية فإن هذا إضافة إلى أسباب أخرى لا مجال لذكرها كلها الآن، منها على سبيل المثال اتجاه وانزلاق الثورة نحو الأسلمة أضعف من همتها وقلل من اندفاعها وفي بعض الحالات انقلب موقفها من الثورة لصالح موقف مضاد للثورة، وحيث أن هذا الإنقلاب كان تجسيدا واضحاً وصارخاً لوقوع البعض تحت تأثير قوة الجذب المغناطيسي الطائفي. أخيراً أقول حول هذه النقطة بأن الفارق بين قوة الجذب في البيئات الطبقية وشروطها عنها في البيئات الاجتماعية الأخرى وشروطها الطائفية أو القبلية أو القومية ...الخ هو في كون الاستقطاب السياسي في البيئات الطبقية لا يتلون في العادة بأكثر من لون وعلم عند طرفي الصراع، فالطرفين واضحين في انتمائهما لقضية طبقية وسياسية محددة وإن كانت متعاكسة، في حين نجد في حالة الاستقطاب والانجذاب في البيئات الاجتماعية الأخرى وجود أكثر من لون وعلم على ضفتي الصراع، فنجد على ضفة: الإنسان الديمقراطي إلى جانب الطائفي والثوري إلى جانب المتسلق، والعلماني إلى جانب الإسلامي...الخ. ونجد على الضفة الأخرى الشبيح إلى جانب اليساري العبودي المخاطي اللزج ونجد من ليس له مصلحة إلى جانب من له كل المصلحة، والعلماني المتشدد إلى جانب الإسلامي، ولكن إسلامي من نوع آخر...الخ  - اتهم اليسار بالوقوف مع النظام رغم أن اليسار قدم الكثير من الشهداء خلال الثورة وقبلها. ما هو تقييمك لليسار السوري وأسباب الإتهامات التي وجهت له؟؟عند تناول موقف اليسار من الثورة السورية، علينا أن نتوقف ونميز دائماً بين عدد من القضايا والمسائل المختلفة: أولاً:علينا التمييز بين نوعين من اليسار، نجد لهما امتدادات في كل الساحات، منذ زمن ما قبل الثورة. فهناك اليسار الذي أسميه باليسار العبودي المخاطي اللزج الستاليني – دكاكين المدرسة البكداشية في الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب النظام - الذي عرف بدعمه ومشاركته للنظام الأسدي في الحكم ولو من موقع الذيل، فهذا اليسار يستحق الإدانة كونه وقف مع النظام تاريخياً، ووقف موقفاً سلبياً وشائنا من الثورة السورية. وهناك في الجهة الثانية اليسار التحرري، كالحزب الشيوعي - المكتب السياسي - وحزب العمل الشيوعي - وحزب البعث العربي الديمقراطي - والاتحاد الاشتراكي الديمقراطي - وحزب العمال الثوري - وفيما بعد حزب اليسار الديمقراطي ...الخ من أحزاب وقوى اليسار التحرري التي واجهت نظام الاستبداد الأسدي على مدى نصف قرن من الزمن، وهي أحزاب تستحق التقدير كونها ناصرت الثورة السورية من اليوم الأول لانطلاقتها. إن عدم التمييز بين هذين النوعين من اليسار يكون في العادة إما نتيجة سذاجة وغباء سياسي عند البعض أو نتيجة الرغبة الواعية في خدمة أجندات سياسية وإيديولوجية معادية لليسار وفكرة اليسار بشكل مطلق أو منافسة لليسار سياسياً وإيديولوجياً.أنا شخصياً لديّ ملاحظات وانتقادات لكل تيارات اليسار ولكن هذا لا يمنع من التمييز بين تياراته المختلفة ومن الخطأ التعميم ووضعها كلها في سلة واحدة. علينا ألّا نكون الوجه الآخر لتيار وفكرة معاداة الرأسمالية والإمبريالية التي يتبناها اليسار العبودي المخاطي اللزج الستاليني الذي لا يميز بين الرأسمالية وبين منجزاتها الحضارية والثقافية والسياسية، وحيث عدم التمييز يتم قصداً لخدمة أجندات الاستبداد ومعاداة الديمقراطية.إن فكرة معاداة اليسار بالمطلق التي تعمل على تكريسها بعض الاتجاهات اليمينية والليبرالية الكلبية، التي لا تميز بين بعض تيارات اليسار التي يمكن أن تساهم سياسياّ وحضارياّ وثقافيا في خدمة قضايا الشعوب الفقيرة والغنية وبين تيارات اليسار الأخرى العبودية التي لا هم لها سوى خدمة نظم الاستبداد وأجنداته،... إن فكرة المعاداة هذه هي الوجه الآخر لفكرة اليسار العبودي المخاطي اللزج الذي يتجاهل ويزدري المنجزات الحضارية الثقافية والسياسية التي حققتها الرأسمالية منذ أن صعدت على مسرح التاريخ حتى يومنا هذا، كما لا يميز قصداً بين تيارات الرأسمالية المختلفة وبين الحالة الاستعمارية والإمبريالية وهنا أقول: علينا ألا نستبدل الثقافة اليسارية الستالينية الكلبية بثقافة ليبرالية كلبية مقابلة، وحيث أن هاتين الثقافتين وجهان لعملة واحدة... إن أكثر ما هو مضحك ومثير للسخرية هنا هو الأصوات الإسلامية أو الداعمة للتيارات الإسلامية التي تنقد اليسار وتتقصد عدم التمييز بين هذا التيار او ذاك من تيارات اليسار بهدف خدمة أجندات إيديولوجية وسياسية آتية من صفوف اليمين الإسلامي أو غير الإسلامي, ومصدر السخرية هنا يأتي من كون مواقف الإسلاميين  وداعميهم من الثورة السورية لم يكن أفضل حالا من موقف بعض تيارات اليسار، فإذا كانت بعض تيارات اليسار قد خانت الثورة لعدم وقوفها مع الثورة وبشكل واضح،  فإن الإسلاميين بغالبيتهم ومعهم الجهات الدولية والإقليمية الداعمة لهم، لم يكن موقفهم أحسن حالاً من مواقف اليسار، حتى ولو بدت مواقفهم في الظاهر بأنها كانت مواقف مناصرة للثورة، فهؤلاء أصبح موقفهم مكشوفاً ومعروفاً للقاصي والداني، فهم من اختطفوا الثورة، وهم من شكلوا الخنجر المسموم الذي طعنها في ظهرها، الأمر الذي يعني أن موقفهم كان شائنا من الثورة حتى لو ادعوا بزعيقهم  عكس ذلك. فهناك من ارتدى عباءة الثورة كما الذئب الذي ضحك على سنيسل ورباب في حكاية أولاد العنزة العنوزية، وهناك من باع قرار الثورة في سوق النخاسة الدولي، وهناك من ارتزق وترزق باسم الثورة.أخيراً أقول: صحيح أن الكثير من تيارات اليسار خانت الثورة وأن بعض تيارات اليسار عموماً لم ترتق إلى مستوى المشاركة الفاعلة في قيادة التحول الديمقراطي في سوريا، ولكن هذا لا يعني أن التيارات الأخرى كانت مؤهلة أكثر من اليسار لقيادة هذا التحول، ولا يوجد أدلة  على فشل الجميع سوى القاع الذي وصلنا إليه. الأمر الذي يعني أن على الجميع إجراء مراجعات نقدية جدية من جهة، ويعني ضرورة الابتعاد عن عقلية وثقافة الإلغاء السياسي والثقافي الكلبي لهذا التيار أو ذاك، وضرورة الإيمان أن الأوطان تبنى بالتشارك بين جميع أبنائه دون استثناء أحد .             -هل من رسالة تود أن توجهها للمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني حول العالم بخصوص ملف معتقلي الرأي في سوريا ؟؟؟من المؤكد أني أوجه الرسائل إلى كل من يمتلك القوة والتأثير في هذا العالم للتدخل والضغط على النظام السوري من أجل الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين في سجونه، ولو كانت الرسائل تأتي بالفائدة في هذا الملف أو غيره من ملفات الثورة السورية لكنت أنا وغيري من السوريين على استعداد للقيام بتوجيه الرسائل بلا انقطاع وبشكل يومي للجهات المعنية. ولأن المسألة تتعلق بالوقائع على الأرض كما يقال، فإني أقول في هذا الملف كما في غيره، إن تحقيق تقدم يحتاج إلى قوة ضغط على النظام، وهذه القوة للأسف لم تعد موجودة ،فمنذ أن توقف الحراك الثوري السلمي في الشارع لم يعد هناك أي قوة ضاغطة ذات معنى تؤثر على النظام وتحرجه في أي ملف ، فالقوة العسكرية المعارضة التي تمسك بالأرض الواقعة خارج سيطرة النظام، تحولت إلى قوى مرتزقة تعمل لصالح أجندات ومصالح إقليمية ودولية. وقد أصبح همّ هذه القوى في تحرير مدينة "سرت" الليبية أو إقليم "ناغوني كارباخ" في أذربيجان أو انتزاع بعض الأراضي التي تسيطر عليها الوحدات الكردية في شمال شرق سوريا أهم بالنسبة لهذه الفصائل من تحرير المعتقلين السياسيين الواقعين بقبضة النظام. ومثلها المعارضة السياسية الرسمية كالائتلاف أو القوى التي على شاكلته الممولة دولياً والقائمة بالأساس من خلال الدعم الخارجي، فجميعها لا حول ولا قوة لها إلا وفق ما يريده داعميها الدوليين والإقليميين الذين آخر همهم ملف المعتقلين كما باقي ملفات الثورة، وهنا أصل إلى موقف الدول التي تدعي دعمها لملفات الثورة، وأقول أن جميع هذه الدول تبيع الوهم والكذب للسوريين والهيئات المعارضة منذ اليوم الأول للثورة. وإن تحقيق أي انفراجة في أي من ملفات الثورة قد أصبح يحتاج إلى معجزة، في زمن لا يمكن أن تصنع فيه المعجزات إلا من خلال من يمتلكون القوة، الأمر الذي يعني بأنه لا خيار أمامنا الآن سوى انتظار حراك جديد في الشارع السوري، قد يأتي  ويؤمن هذه القوة، واذا كان احتمال حدوث هذا الحراك بعد كل ما حدث يشبه المستحيل، فإني أقول لا خيار أمامنا سوى انتظار المستحيل.غنت السيدة فيروز يوماً: وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان، وحدن بيبقوا بيقطفوا وراق الزمان ..وكي لا يبقوا وحدهم سنظل نستذكرهم ونستحضر نضالاتهم وعذاباتهم وتجاربهم إلى أن يأتي يومٌ ينكسر فيه القيد، ويتحوّل مهجع السجن إلى مسرحٍ أو مقهى أو معرضٍ فنيٍّ .
أكمل القراءة