2023-03-07
شتّان!
أحمد اليوسف
كان جيلنا آخر جيل يشهد مجالس الفشكِ في القرية. والفشك هو روث الحيوانات الذي واظبت نساء القرية على جمعه وتخزينه لفصل الشتاء كمادةٍ لإيقاد النار بدل الحطب. اجتمعنا مرة، في أول سنة لي في القرية في جبل الزاوية، بعد نزوحي من الرقة، عصبة من الأطفال لنسرب الفشك (نلمّه) في أحراجنا تاركين الخصى تلوح كيفما تشاء لا تغطيها سراويل ولا كلاسين . " فضايل الله والنبي! ما في أحلى من شوفة الأولاد معبايين المرج والبيدر!"، هكذا قالت أم أحمد وهي تتأمل أطفالا يسربون الفشك وخصاهم تلوح على مد النظر. كنا أول جيلٍ لا يموت نصفه من المرض في عمر الطفولة.وكانت النسوة تجمع ما قد سربناه نحن الصبية وتنقعه بالماء لتعاود عجنه ولكّه في قطعٍ صغيرةٍ تسمى بـ “القرفوش" وفي صيغة الجمع تسمى بالـ “قرافيش". ولكل امرأة في ريفنا خصوصيتها الفنيّة في لكّ القرافي وفي أختامها ورسومها التي تطبعها على فشكها. "والله هالخصوات أكبر من خصوات أبو سليم الله يرحمه!"، هكذا قالت أم سليم مقهقهه وهي ترسم خصيتين على قرفوشٍ من الجلّة تكريما لخصيتي طفولتي بعد أن جمعتُ لها حرجاً من الفشك. ولم أر في حياتي كلها متاحف تنافس في جمالها المبهم متحف الفشك المنتشر في العراء على حيطان قريتنا. وحده الله يعلم لماذا كان لنسوةٍ، فقيرة الحقائق والمال، كل هذا الحرص الشديد على الجمال في لكّهن للجلّة! ولمجلس الفشك طقوسٌ منها علو أصوات النسوة وهي تغني جماعةً وكأنهن في مولدٍ نبويٍّ أو في مهرجان نوباتٍ صوفيّة. وتعودت النسوة في كل استراحةٍ من اللكّ على الدخول في سجالات خلافيّة حول كل شيء: فسجال في الدين نقدا لأكل مهر المرأة، وفي السياسة لعنا للدولة، وفي الحب نميمة على الرجال. " الحب متل الإيمان، طيب عند الطيبين وبشع عند البشعين"، هكذا كانت تقول جدتي الدرويش في الحب في مجلس النسوة. ولكل امرأة في مجلس الفشك رأيٌ وموقفٌ شخصي حول كل شيء. وحين هجرت طفولتي وهجرت قريتي وسكنت اللاذقية كطالب للفلسفة أذهلني، إلى حد (الدعشة)، الفارق الشاسع ما بين فوضويّة ريفٍ، يسمى بالضيعة، ينقش الجمال حتى على قرافيش من الجلّة، وبين انضباط طلبةٍ مثقفةٍ تطوعت في حلقات حفظٍ لا تميز فيه ما بين جامعات علمٍ وحوزاتٍ تحفيظيّة. لم يكن لنا هوية ولا شخصية ولا رأي ولا حتى قضية بل مجرد طلبة تحفظ ما يُملى عليها.في امتحان الفلسفة للسنة الثانية وقفت مراقبة على باب القاعة وأخرى وقفت في الوسط وتوجهت إلينا بالقول:" انقلوا قد ما بدكن بس ما بدي اسمع صوت وضجة، يالله كل واحد ينقل من الي جنبه"، فتحولت القاعة إلى بازارٍ من الطلبة المتجولين بحثا عن اجابات ينقلونها في مشهدٍ قبيحٍ مفرطٍ في بشاعته. وكان، للمفارقة، كل هذا القبح المبين في امتحان مادة علم الجمال. شتان ما بين نقش الجمال على قرافيش من الجلّة في مجالس النسوة في القرية وبين ثقافة المسخ القبيحة في جامعات الأب المفدى. شتّان!
أكمل القراءة